فصل: تفسير الآيات رقم (10- 13)

مساءً 8 :31
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏24‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا‏}‏ وهذا القول منهم إنكار للآخرة وتكذيب بالبعث وإبطال للجزاء‏.‏

‏{‏نَمُوتُ وَنَحْيَا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه مقدم ومؤخر، وتقديره‏:‏ نحيا نموت‏.‏ وهي كذلك في قراءة ابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ أنه على تربيته، وفي تأويله وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ نموت نحن ويحيا أولادنا، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ يموت بعضنا‏.‏

‏{‏وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ وما يهلكنا إلا العمر، قاله قتادة‏.‏ وأنشد قول الشاعر‏:‏

لكل أمر أتى يوماً له سبب *** والدهر فيه وفي تصريفه عجب

الثاني‏:‏ وما يهلكنا إلا الزمان، قاله مجاهد‏.‏

وروى أبو هريرة قال‏:‏ كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار، والذي يهلكنا يميتنا ويحيينا، فنزلت هذه الآية‏.‏

الثالث‏:‏ وما يهلكنا إلا الموت، قاله قطرب، وأنشد لأبي ذؤيب‏:‏

أمن المنون وريبها تتوجع *** والدهر ليس بمعتب من يجزع

الرابع‏:‏ وما يهلكنا إلا الله، قاله عكرمة‏.‏

وروى الحسن قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رجال يقولون‏:‏ يا خيبة الدهر، يا بؤس الدهر، لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل هو الدهر، وإنه يقبض الأيام ويبسطها»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏27‏)‏ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً‏}‏ الأمة أهل كل ملة‏.‏ وفي الجاثية خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ مستوفزة، قاله مجاهد‏.‏ وقال سفيان‏:‏ المستوفز الذي لا يصيب منه الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله‏.‏

الثاني‏:‏ مجتمعة، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ متميزة، قاله عكرمة‏.‏

الرابع‏:‏ خاضعة بلغة قريش، قاله مؤرج‏.‏

الخامس‏:‏ باركة على الركب، قاله الحسن‏.‏

وفي الجثاة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه للكفار خاصة، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عام للمؤمن والكافر انتظاراً للحساب‏.‏

وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبد الله بن باباه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ كأني أراكم بالكوم جاثين دون جهنم‏.‏

‏{‏كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ إلى حسابها، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ إلى كتابها الذي أنزل على رسولها، حكاه الجاحظ‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه القرآن يدلكم على ما فيه من الحق، فكأنه شاهد عليكم، قاله ابن قتيبة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه اللوح المحفوظ يشهد بما قضي فيه من سعادة وشقاء، خير وشر، قاله مقاتل، وهو معنى قول مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه كتاب الأعمال الذي يكتب الحفظة فيه أعمال العباد ويشهد عليكم بما تضمنه من صدق أعمالكم، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُم تَعْمَلُونَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني يكتب الحفظة ما كنتم تعملون في الدنيا، قاله علي رضي الله عنه ومن زعم أنه كتاب الأعمال‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدوَّن عندها من أحوال العباد، قاله ابن عباس ومن زعم أن الكتاب هو اللوح المحفوظ‏.‏

الثالث‏:‏ نستنسخ ما كتب عليكم الملائكة الحفظة، قاله الحسن لأن الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الأعمال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 37‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏30‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ‏(‏32‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏33‏)‏ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏34‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ اليوم نترككم في النار كما تركتم أمري، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ اليوم نترككم من الرحمة كما تركتم الطاعة، وهو محتمل

الثالث‏:‏ اليوم نترككم من الخير كما تركتمونا من العمل، قاله سعيد بن جبير‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الكبرياء العظمة، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنه السلطان، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ الشرف، قاله ابن زياد‏.‏

الرابع‏:‏ البقاء والخلود‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْعَزِيزُ‏}‏ في انتقامه ‏{‏الْحَكِيمُ‏}‏ في تدبيره‏.‏

سورة الأحقاف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏4‏)‏ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ معناه قُضِي نزول الكتاب من الله العزيز الحكيم، قاله النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ هذا الكتاب يعني القرآن تنزيل من الله العزيز الحكيم، قاله الحسن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ إلا بالصدق، قاله ابن إسحاق‏.‏

الثاني‏:‏ إلا بالعدل، وهو مأثور‏.‏

الثالث‏:‏ إلا للحق، قاله الكلبي‏.‏

الرابع‏:‏ إلا للبعث، قاله يحيى‏.‏

‏{‏وَأَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أجل القيامة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الأجل المقدور لكل مخلوق، وهو محتمل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ‏}‏ قرأ الحسن وطائفة معه ‏{‏أَوْ أَثَرَةٍ‏}‏ وفي تأويل ‏{‏أَوْ أَثَارَةٍ‏}‏ وهي قراءة الجمهور ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ رواية من علم، قاله يحيى‏.‏

الثاني‏:‏ بقية، قاله أبو بكر بن عياش، ومنه قول الشاعر‏:‏

وذات أثارة أكلت عليها *** نباتاً في أكمته قفارا

أي بقية من شحم‏.‏

الثالث‏:‏ أو علم تأثرونه عن غيركم، قاله مجاهد‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أو اجتهاد بعلم، لأن أثارة العلم الاجتهاد‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أو مناظرة بعلم لأن المناظر في العلم مثير لمعانيه‏.‏

ومن قرأ ‏{‏أَوْ أَثَرَةٍ مِّنْ عِلْمٍ‏}‏ ففي تأويله خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الخط، وقد رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ ميراث من علم، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ خاصة من علم، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ أو بقية من علم، قاله عطية‏.‏

الخامس‏:‏ أثرة يستخرجه فيثيره، قاله الحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏8‏)‏ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه لست بأول الرسل‏.‏ والبدع الأول‏.‏ والبديع من كل شيء المبتدع، وأنشد قطرب لعدي بن زيد‏:‏

فلا أنا بدع من حوادث تعتري *** رجالاً غدت من بعد بؤسي بأسعد

‏{‏وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يعني لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا لا في الآخرة، فلا أدري ما يفعل بي أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي، أو أُقتل كما قتل الأنبياء من قبلي ولا أدري ما يفعل بكم، إنكم مصدقون أو مكذبون، أو معذبون أو مؤخرون، قاله الحسن‏:‏

الثاني‏:‏ لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة‏.‏ وهذا قبل نزول ‏{‏لِيَغْفِر لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ الآية‏.‏ فلما نزل عليه ذلك عام الحديبية علم ما يفعل به في الآخرة وقال لأصحابه‏:‏ «لَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ آيَةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعِهَا» فلما تلاها قال رجل من القوم‏:‏ هنيئاً يا رسول الله، قد بين الله ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُدْخِلَ الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ الآية‏.‏ قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل الهجرة «لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي أَرْضاً أَخْرُجُ إِلَيْهَا مِن مَكَّةَ» فلما اشتد البلاء على أصحابه بمكة قالوا‏:‏ يا رسول الله حتى متى نلقى هذا البلاء‏؟‏ ومتى تخرج إلى الأرض التي رأيت‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُم، أَنَمُوتُ بِمَكَّةَ أَمْ نَخْرُجُ مِنهَا» قال الكلبي‏.‏

الرابع‏:‏ معناه قل لا أدري ما أؤمر به ولا ما تؤمرون به، قاله الضحاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏12‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏13‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به، قاله يحيى‏.‏

الثاني‏:‏ إن كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً من عند الله وكفرتم به، قاله الشعبي‏.‏

‏{‏وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَني إِسْرَآئِيلَ عَلَى مِثْلِهِ‏}‏ فيه خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه عبد الله بن سلام شهد على اليهود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكور في التوراة، قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه آمين بن يامين، قال لما أسلم عبد الله بن سلام‏:‏ أنا شاهد مثل شهادته ومؤمن كإيمانه، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أن موسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم يشهد بنبوته، والتوراة مثل القرآن يشهد بصحته، قاله مسروق‏.‏ ولم يكن في عبد الله بن سلام لأنه أسلم بالمدينة والآية مكية‏.‏

الرابع‏:‏ هو من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوراة، قاله الشعبي‏.‏

الخامس‏:‏ أنه موسى الذي هو مثل محمد صلى الله عليهما شهد على التوراة‏.‏ التي هي مثل القرآن، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ‏}‏ أنتم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله مسروق‏.‏

وفي قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ فآمن عبد الله بن سلام برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن واستكبر الباقون عن الإيمان، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ فآمَن مَن آمن بموسى وبالتوراة واستكبرتم أنتم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، قاله مسروق‏.‏ وحكى النقاش أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره‏:‏ قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن هو وكفرتم‏.‏

وقال ابن عيسى‏:‏ الكلام على سياقه ولكن حذف منه جواب إن كان من عند الله وفي المحذوف ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ تقديره‏:‏ وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن، أتؤمنون‏؟‏ قاله الزجاج‏.‏

الثاني‏:‏ تقدير المحذوف‏:‏ فآمن واستكبرتم أفما تهلكون، قاله مذكور‏.‏

الثالث‏:‏ تقدير المحذوف من جوابه‏:‏ فمن أضل منكم إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الِّذِينَ كَفَرُواْ لِلِّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ‏}‏ وفي سبب نزول هذه الآية أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن أبا ذر الغفاري دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بمكة فأجاب واستجاب به قومه فأتاه زعيمهم فأسلم، ثم دعاهم الزعيم فأسلموا فبلغ ذلك قريشاً فقالوا‏:‏ غفار الخلفاء لو كان خيراً ما سبقونا إليه‏.‏ فنزلت، قاله أبو المتوكل‏.‏

الثاني‏:‏ أن زنيرة أسلمت فأصيب بصرها، فقالوا لها‏:‏ أصابك اللات والعزى، فرد الله عليها بصرها، فقال عظماء قريش‏:‏ لو كان ما جاء به محمد خير ما سبقتنا إليه زنيرة فنزلت، قاله عروة بن الزبير‏.‏

الثالث‏:‏ أن الذين كفروا هم عامر وغطفان وأسد وحنظلة قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وغطفان وجهينة ومزينة وأشجع‏:‏ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا إليه رعاة البهم‏.‏ فنزلت، قاله الكلبي‏.‏

الرابع‏:‏ أن الكفار قالوا‏:‏ لو كان خيراً ما سبقتنا إليه اليهود فنزلت هذه الآية، قاله مسروق‏.‏

وهذه المعارضة من الكفار في قولهم لو كان خيراً ما سبقونا إليه من أقبح المعارضات لانقلابها عليهم لكل من من خالفهم حتى يقال لهم‏:‏ لو كان ما أنتم عليه خيراً ما عدنا عنه، ولو كان تكذيبكم للرسول خيراً ما سبقتمونا إليه‏.‏

‏{‏وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ‏}‏ يعني إلى الإيمان‏.‏ وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وإذا لم يهتدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ بالقرآن‏.‏

‏{‏فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ فسيقولون هذا القرآن كذب قديم، تشبيهاً بدين موسى القديم، تكذيباً بهما جيمعاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ثم استقاموا على أن الله ربهم، قاله أَبو بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏

الثاني‏:‏ ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ على أداء فرائض الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ على أن أخلصوا له الدين والعمل، قاله أبو العالية‏.‏

الخامس‏:‏ ثم استقاموا عليه فلم يرجعوا عنه إلى موتهم، رواه أنس مرفوعاً‏.‏

‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِم‏}‏ يعني في الآخرة‏.‏

‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ يعني عند الموت، قاله سعيد بن جبير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْه إحْسَاناً‏}‏ في قراءة أهل الكوفة وقرأ الباقون حسناً‏.‏ قال السدي‏:‏ يعني براً‏.‏

‏{‏حَمَلْتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً‏}‏ أي حملته بمشقة ووضعته بمشقة‏.‏ وقرئ كرهاً بالضم والفتح‏.‏ قال الكسائي والفراء في الفرق بينهما أن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه، وبالفتح ما حمل على غيره‏.‏

‏{‏وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَ ثُونُ شَهْراً‏}‏ الفصال مدة الرضاع، فقدر مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً، وكان في هذا التقدير قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها مدة قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع، فلما كان أكثر الرضاع أربعة وعشرين شهراً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَولَينِ كَامِلَينِ لِمَنْ أَرادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ دل ذلك على أن مدة أقل الحمل ما بقي وهو ستة أشهر، فإن ولدته لتسعة أشهر لم يوجب ذلك نقصان الحولين في الرضاع، قاله الشافعي وجمهور الفقهاء‏.‏

الثاني‏:‏ أنها مدة جمعت زمان الحمل ومدة الرضاع، فإن كانت حملته تسعة أشهر؛ أرضعته أحداً وعشرين شهراً، وإن كانت حملته عشرة أشهر أرضعته شهراً لئلا تزيد المدة فيهما عن ثلاثين شهراً، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ‏}‏ وفي الأشد تسعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه البلوغ، قاله ابن مالك والشعبي وزيد بن أسلم‏.‏

الثاني‏:‏ خمسة عشر سنة، قاله محمد بن أويس‏.‏

الثالث‏:‏ ثماني عشرة سنة، قاله ابن جبير‏.‏

الرابع‏:‏ عشرون سنة، قاله سنان‏.‏

الخامس‏:‏ خمسة وعشرون سنة، قاله عكرمة‏.‏

السادس‏:‏ ثلاثون سنة، قاله السدي‏.‏

السابع‏:‏ ثلاثة وثلاثون سنة، قاله ابن عباس‏.‏

الثامن‏:‏ أربعة وثلاثون سنة، قاله سفيان الثوري‏.‏

التاسع‏:‏ أربعون سنة، وهو قول عائشة، والحسن‏.‏

‏{‏وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ لأنها زمان الأشد، وهو قول من ذكرنا‏.‏

الثاني‏:‏ لأنها زمان الاستواء، قال زيد بن أسلم‏:‏ لم يبعث الله نبياً حتى يبلغ الأربعين‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ وقوله تعالى لموسى ‏{‏وَاسْتَوَى‏}‏ قال بلغ أربعين سنة‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ يثغر الغلام لسبع ويحتلم لأربع عشرة، وينتهي طوله لإحدى وعشرين سنة، وينتهي عقله لثمان وعشرين، فما زاد بعد ذلك فهو تجربة ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين‏.‏

الثالث‏:‏ لأنها أول عمر بعد تمام عمر، قال ابن قيس‏.‏

‏{‏رَبِّ أَوْزِعْنِي‏}‏ قال سفيان معناه ألهمني‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ والأصل في الإيزاع هو الإغراء بالشيء، ويقال فلان موزع بكذا أي مولع به‏.‏

‏{‏أَن أَشْكُر نِعْمَتَكَ الَّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنعمت علي بالبر والطاعة، وأنعمت على والدي بالتحنن والشفقة‏.‏

الثاني‏:‏ أنعمت عليَّ بالعافية والصحة، وعلى والديَّ بالغنى والثروة، وفي النعمة على كل واحد منهما نعمة على الآخر لما بينهما من الممازجة والحقوق الملتزمة‏.‏

وحكى أبو زهير عن الأعمش قال‏:‏ سمعتهم يقولون إن الولد يأتيه رزقه من أربع خلال‏:‏ يأتيه رزقه وهو في بطن أمه، ثم يولد فيكون رزقه في ثدي أمه، فإذا تحرك كان رزقه على أبويه، فإذا اجتمع وبلغ أشده جلس يهتم للرزق ويقول من أين يأتيني رزقي، فاختصت الأم بخلتين من خلال رزقه، واشترك أبوه في الثالثة، وتفرد هو بالرابعة، فذهب عنه الهم لما كان موكلاً إلى غيره، واهتم لما صار موكلاً إلى نفسه ليتنبه بذلك على التوكل على خالقه ليكون نقى لهمته وأقل لحيرته وأدرّ لرزقه، وليعلم أن لأمه عليه حقاً يعجز عن أدائه لما عانت من موارد رزقه ما عجز الخلق عن معاناته‏.‏

‏{‏وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ في بر الوالدين‏.‏

الثاني‏:‏ في ديني‏.‏

‏{‏وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَتِي‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يدعو بإصلاحهم لبره وطاعته لإضافته ذلك إلى نفسه‏.‏

الثاني‏:‏ أن يدعو بإصلاحهم لطاعة الله وعبادته وهو الأشبه، لأن طاعتهم لله من بره، ولأنه قد دعا بصلاح ذرية قد تكون من بعده‏.‏

وفيه لأصحاب الخواطر أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ قاله سهل‏:‏ اجعلهم لي خلف صدق ولك عبيد حق‏.‏

الثاني‏:‏ قاله أبو عثمان‏:‏ اجعلهم أبراراً، أي مطيعين لك‏.‏

الثالث‏:‏ قاله ابن عطاء وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم‏.‏

الرابع‏:‏ قاله محمد الباقر رضي الله عنه‏:‏ لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلاً‏.‏

‏{‏إنِّي تُبْتُ إِِلَيكَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ رجعت عن الأمر الذي كنت عليه‏.‏

وفي هذه الآية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قاله مقاتل والكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ مرسلة نزلت على العموم، قاله الحسن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أُوْلَئكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم، قاله زيد بن أسلم يحكيه مرفوعاً‏.‏

الثاني‏:‏ هو إعطاؤهم بالحسنة عشراً رواه أبو هلال‏.‏

الثالث‏:‏ هي الطاعات لأنها الأحسن من أعماله التي يثاب عليها وليس في المباح ثواب ولا عقاب، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِم فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ نتجاوز عن سيئاتهم بالرحمة‏.‏

الثاني‏:‏ نتجاوز عن صغائرهم بالمغفرة‏.‏

الثالث‏:‏ نتجاوز عن كبائرهم بالتوبة‏.‏

‏{‏وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ‏}‏ وعد الصدق الجنة، الذي كانوا يوعدون في الدنيا على ألسنة الرسل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏

‏{‏وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏17‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏18‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لكُمَا أَتَعِدَانَنِي أَنْ أُخْرَجَ‏}‏‏:‏ أي أبعث‏.‏

‏{‏وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي‏}‏ فلم يبعثوا‏.‏ وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وأمه أم رومان‏.‏ يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث فيرد عليهما بما حكاه الله عنه، وكان هذا منه قبل إسلامه، قاله السدي‏.‏

قال السدي‏:‏ فلقد رأيت عبد الرحمن بن أبي بكر بالمدينة، وما بالمدينة أَعْبَدُ منه، ولقد استجاب الله فيه دعوة أبي بكر رضي الله عنه، ولما أسلم وحسن إسلامه، نزلت توبته في هذه الآية ‏{‏وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُواْ‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر، وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله تعالى، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنها نزلت في جماعة من الكفار قالوا ذلك لآبائهم ولذلك قال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيهِم الْقَوْلُ‏}‏ والعرب قد تذكر الواحد وتريد به الجمع وهذا معنى قول الحسن‏.‏ فأما ال ‏{‏أُفٍّ‏}‏ فهي كلمة تبرم يقصد بها إظهار السخط وقبح الرد‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ما يذكر الدهر إلا قلت أف له *** إذا لقيتك لولا قال لي لاقي

وفي أصل الأف والتف ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الأف وسخ الأذن، والتف وسخ الأنف‏.‏

الثاني‏:‏ الأف وسخ الأظفار، والتف الذي يكون في أصول الأظافر‏.‏

الثالث‏:‏ أن الأف العليل الأنف، والتف الإبعاد‏.‏

‏{‏وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّه‏}‏ أي يدعوان الله‏:‏ اللهم اهده، اللهم اقبل بقلبه، اللهم اغفر له‏.‏

‏{‏وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ‏}‏ في الثواب على الإيمان، والعقاب على الكفر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا‏}‏ يحتمل أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه أذهبتم طيباتكم في الآخرة بمعاصيكم في الدنيا‏.‏

الثاني‏:‏ ألهتكم الشهوات عن الأعمال الصالحة‏.‏

الثالث‏:‏ أذهبتم لذة طيباتكم في الدنيا بما استوجبتموه من عقاب معاصيكم في الآخرة‏.‏

الرابع‏:‏ معناه اقتنعتم بعاجل الطيبات في الدنيا بدلاً من آجل الطيبات في الآخرة‏.‏

وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول‏:‏ لأنا أعلم بخفض العيش، ولو شئت لجعلت أكباداً وأسنمة وصلاء وصناباً وسلائق، ولكن أستبقي حسناتي، فإن الله تعالى وصف قوماً فقال‏:‏ ‏{‏أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا‏}‏ والصلاء، والشواء، والصناب الأصبغة والسلائق الرقاق العريض‏.‏

وقال ابن بحر فيه تأويل خامس‏:‏ أن الطيبات‏:‏ الشباب والقوة، مأخوذ من قولهم‏:‏ ذهب أطيباه أي شبابه وقوته‏.‏ ووجدت الضحاك قاله أيضاً‏.‏

‏{‏وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ بالدنيا‏.‏

الثاني‏:‏ بالطيبات‏.‏

‏{‏فَالْيَوْمَ تُجْزَونَ عَذَابَ الْهُونِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ الهون الهوان‏.‏ قال قتادة بلغة قريش‏.‏

‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ‏}‏ يحتمل ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ تستعلون على أهلها بغير استحقاق‏.‏

الثاني‏:‏ تتغلبون على أهلها بغير دين‏.‏

الثالث‏:‏ تعصون الله فيها بغير طاعة‏.‏

‏{‏وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ تفسقون في أعمالكم بغياً وظلماً‏.‏

الثاني‏:‏ في اعتقادكم كفراً وشركاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 25‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏23‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏24‏)‏ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ‏}‏ وهو هود بعث إلى عاد، وكان أخاهم في النسب لا في الدين لأنه مناسب وإن لم يكن أخا أحد منهم‏.‏

‏{‏إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ‏}‏ وهي جمع حقف، وهو ما استطال واعوج من الرمل العظيم، ولا يبلغ أن يكون جبلاً‏.‏ ومنه قول العجاج‏:‏

بات إلى أرطاة حقف أحقفا ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

أي رمل مستطيل مشرق‏.‏

وفيما أريد بالأحقاف هنا خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الأحقاف رمال مشرقة كالجبال، قاله ابن زيد، وشاهده ما تقدم، وقال هي رمال مشرقة على البحر بالسحر في اليمن‏.‏

الثاني‏:‏ أن الأحقاف أرض من حسمي تسمى الأحقاف، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه جبل بالشام يسمى الأحقاف، قاله الضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ هو ما بين عمان وحضرموت، قاله ابن إسحاق‏.‏

الخامس‏:‏ هو واد بين عُمان ومهرة، قاله ابن عباس‏.‏

وروى أبو الطفيل عن علي كرم الله وجهه أنه قال‏:‏ خير واد بين في الناس واد بمكة، وواد نزل به آدم بأرض الهند، وشر واديين في الناس وادي الأحقاف، ووادٍ بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار، وخير بئر في الناس بئر زمزم، وشر بئر في الناس بئر برهوت وهي ذلك الوادي حضرموت‏.‏

‏{‏وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ‏}‏ أي قد بعث الرسل من قبل هود ومن بعده، قال الفراء، من بين يديه من قبله، ومن خلفه من بعده وهي في قراءة ابن مسعود‏:‏ ‏{‏مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ بَعدِهِ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لتزيلنا عن عبادتها بالإفك‏.‏

الثاني‏:‏ لتصدنا عن آلهتنا بالمنع، قاله الضحاك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتهِمْ‏}‏ يعني السحاب‏.‏ وأنشد الأخفش لأبي كبير الهذلي‏:‏

وإذا نظرت إلى أسرة وجهه *** برقت كبرق العارض المنهال

وفي تسميته عارضاً ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ لأنه أخذ في عرض السماء، قال ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ لأنه يملأ آفاق السماء، قال النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ لأنه مار من السماء‏.‏ والعارض هو المار الذي لا يلبث وهذا أشبه‏.‏

‏{‏قَاُلواْ هَذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا‏}‏ حسبوه سحاباً يمطرهم، وكان المطر قد أبطأ عليهم‏.‏

‏{‏بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذابٌ أَلِيمٌ‏}‏ كانوا حين أوعدهم هود استعجلوه استهزاء منهم بوعيده، فلما رأوا السحاب بعد طول الجدب أكذبوا هوداً وقالوا‏:‏ هذا عارض ممطرنا‏.‏

ذكر أن القائل ذلك من قوم عاد، بكر بن معاوية‏.‏ فلما نظر هود إلى السحاب قال‏:‏ بل هو ما استعجلتم به، أي الذي طلبتم تعجيله ريح فيها عذاب أليم وهي الدبور‏.‏

وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «نُصِرْتُ بِالصبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ»

فنظر بكر بن معاوية إلى السحاب فقال‏:‏ إني لأرى سحاباً مُرْمِداً، لا يدع من عَادٍ أحداً‏.‏ فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم‏.‏

قال ابن اسحاق‏:‏ واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو ومن معه فيها إلا ما يلين على الجلود وتلتذ الأنفس به، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض‏.‏

وحكى الكلبي أن شاعرهم قال في ذلك‏:‏

فدعا هود عليهم *** دعوة أضحوا همودا

عصفت ريح عليهم *** تركت عاداً خمودا

سخرت سبع ليال *** لم تدع في الأرض عودا

وعمَّر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏27‏)‏ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ مََّكنَّاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكنَّاكُمْ فِيهِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فيما لم نمكنكم فيه، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ فيما مكناكم فيه وإن هنا صلة زائدة‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ وهو أن تكون ثابتة غير زائدة ويكون جوابها مضمراً محذوفاً ويكون تقديره‏:‏ ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد‏.‏

ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأبْصَاراً وَأَفْئِدَةً‏}‏ الآية‏.‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أننا جعلنا لهم من حواس الهداية ما لم يهتدوا به‏.‏

الثاني‏:‏ معناه جعلنا لهم أسباب الدفع ما لم يدفعوا به عن أنفسهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏29‏)‏ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏30‏)‏ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏31‏)‏ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإذ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْءَانَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب ولم يكونوا بعد عيسى صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ ما هذا الذي حدث في الأرض‏؟‏ فضربوا في الأَرض حتى وقفوا على النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة عائداً إلى عكاظ وهو يصلي الفجر، فاستمعوا القرآن ونظروا كيف يصلي ويقتدي به أصحابه، فرجعوا إلى قومهم فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً، قاله ابن عباس‏.‏

وحكى عكرم أن السورة التي كان يقرأها ببطن نخلة ‏{‏اقرأْ بِاسِمِ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ وحكى ابن عباس كان يقرأ في العشاء ‏{‏كَادوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله لهم حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة‏.‏

وفيهم أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم جن من أهل نصيبين، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم من أهل نينوى، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم من جزيرة الموصل، قاله عكرمة‏.‏

الرابع‏:‏ من أهل نجران، قاله مجاهد‏.‏

واختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم كانوا تسعة أحدهم زوبعة، قاله زر بن حبيش‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم كانوا سبعة‏:‏ ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين، وكانت أسماؤهم حسى ومسى وشاصر وناصر والأردن وأنيان الأحقم، قاله مجاهد‏.‏

واختلف في علم النبي صلى الله عليه وسلم على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ما شعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه فيهم وأخبره عنهم، قاله ابن عباس، والحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أن الله قد كان أعلمه بهم قبل مجيئهم‏.‏ روى شعبة عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إِنِّي أمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى الْجِنِّ فَأَيُّكُمْ يَتْبَعُنِي»‏؟‏فأطرقوا فاتبعه ابن مسعود فدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون وخط عليه وخط على ابن مسعود ليثبته بذلك، قال عكرمة‏:‏ وقال لابن مسعود‏:‏ «لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيكَ» فلما خشيهم ابن مسعود كاد أن يذهب فذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبرح، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَوْ ذَهَبْتَ مَا التَقَيْنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»

ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم تلا عليهم القرآن وقضى بينهم في قتيل منهم‏.‏ وروى قتادة عن ابن مسعود أنهم سألوه الزاد فقال‏:‏ «كُلُّ عَظْمٍ لَكُم عِرْقٌ، وَكُلٌّ رَوَثَةٍ لَكُم خَضِرَةٌ» فقالوا يا رسول الله يقذرها الناس علينا، فنهى سول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بأحدهما‏.‏

روى عبد الله بن عمرو بن غيلان عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إِنَّ وَفْدَ الجِنَّ سَأَلُونِي المَتَاع،- وَالمَتَاعُ‏:‏ الزَّادُ- فَمَتَّعْتُهُم بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ وَبَعْرَةٍ أَوْ رَوَثَةٍ» فقلت‏:‏ يا رسول الله وما يغني عن ذلك عنهم‏؟‏ فقال‏:‏ «إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة ولا بعرة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت، فلا يستنجين أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة»‏.‏

‏{‏فَلَمَّا حَضَرُوه قَالُواْ أنصِتُواْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ فلما حضروا قراءة القرآن قال بعضهم لبعض أنصتوا لسماع القرآن‏.‏

الثاني‏:‏ لما حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا أنصتوا لسماع قوله‏.‏

‏{‏فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فلما فرغ من الصلاة ولوا إلى قومهم منذرين برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الكلبي‏:‏ مخوفين‏:‏ قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ فلما فرغ من قرءاة القرآن ولوا إلى قومهم منذرين، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ‏}‏ أي نبي الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ‏}‏ أي نبي الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏فَليسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ‏}‏ أي سابق لله فيفوته هرباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏34‏)‏ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِن الرُّسُلِ‏}‏ فيهم ستة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن أولي العزم من الرسل الذين أمروا بالقتال من الأنبياء، قاله السدي والكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم العرب من الأنبياء، قاله مجاهد والشعبي‏.‏

الثالث‏:‏ من لم تصبه فتنة من الأنبياء، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ من أصابه منهم بلاء بغير ذنب، قاله ابن جريج‏.‏

الخامس‏:‏ أنهم أولوا العزم، حكاه يحيى‏.‏

السادس‏:‏ أنهم أولوا الصبر الذين صبروا على أذى قومهم فلم يجزعوا‏.‏

وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله عز وجل لم يرض عن أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر على مخبوئها»‏.‏

وفي أولي العزم منهم ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن جميع الأنبياء أولوا العزم، ولم يبعث الله رسولاً إلا كان من أولي العزم‏.‏ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أن أولي العزم منهم نوح وهود وإبراهيم، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم، قاله أبو العالية‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى، قاله عبد العزيز‏.‏

الخامس‏:‏ أنهم إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم، قاله السدي‏.‏

السادس‏:‏ أن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب، وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم، قاله ابن جريج‏.‏

‏{‏وَلاَ تَسْتَعْجِلَ لَّهُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالدعاء عليهم، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ بالعذاب وهذا وعيد‏.‏

‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من العذاب، قاله يحيى‏.‏

الثاني‏:‏ من الآخرة، قاله النقاش‏.‏

‏{‏لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِن نَّهَارٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ في الدنيا حتى جاءهم العذاب، وهو مقتضى قول يحيى‏.‏

الثاني‏:‏ في قبورهم حتى بعثوا للحساب، وهو مقتضى قول النقاش‏.‏

‏{‏بَلاَغٌ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن ذلك اللبث بلاغ، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ أن هذا القرآن بلاغ، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أن هذا الذي وصفه الله بلاغ، وهو حلول ما وعده إما من الهلاك في الدنيا أو العذاب في الآخرة على ما تقدم من الوجهين‏:‏

‏{‏فَهَلْ يُهْلَكُ‏}‏ يعني بعد هذا البلاغ‏.‏

‏{‏إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ قال يحيى‏:‏ المشركون‏.‏

وذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأمره الله أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولوا العزم من الرسل تسهيلاً عليه وتثبيتاً له، والله أعلم‏.‏

سورة محمد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏1‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ يعني كفروا بتوحيد الله‏.‏

‏{‏وَصَدُّواْ عَن سَبيلِ اللَّهِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ عن الله وهو الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ عن بيت الله يمنع قاصديه إذا عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم- عليهم الإسلام أن يدخلوا فيه، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ يحتمل ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أحبط ما فعلوه من الخير بما أقاموا عليه من الكفر‏.‏

الثاني‏:‏ أبطل ما أنفقوا ببدر لما نالهم من القتل‏.‏

الثالث‏:‏ أضلهم عن الهدى بما صرفهم عن التوفيق‏.‏

وحكى مقاتل بن حيان أن هذه الآية نزلت في اثني عشر رجلاً من كفار مكة، ذكر النقاش أنهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عقبة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج وأبو البختري وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام والحارث بن عامر بن نوفل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ ءَامَنواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الأنصار، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نزلت خاصة في ناس من قريش، قاله مقاتل‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ المواساة بمساكنهم وأموالهم، وهذا قول من زعم أنهم الأنصار‏.‏

الثاني‏:‏ الهجرة وهذا قول من زعم أنهم قريش‏.‏

‏{‏وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ‏}‏ أي آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه من القرآن‏.‏

‏{‏وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن إيمانهم هو الحق من ربهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن القرآن هو الحق من ربهم‏.‏

‏{‏كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ سترها عليهم‏.‏

الثاني‏:‏ غفرها بإيمانهم‏.‏

‏{‏وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أصلح شأنهم، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أصلح حالهم، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أصلح أمرهم، قاله ابن عباس، والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم‏.‏

الرابع‏:‏ أصلح نياتهم‏.‏ حكاه النقاش، ومنه قول الشاعر‏:‏

فإن تقبلي بالود أقبل بمثله *** وإن تدبري أذهب إلى حال باليا

وهو على هذا التأويل محمول على إصلاح دينهم، والبال لا يجمع لأنه أبهم إخوانه من الشأن والحال والأمر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الباطل الشيطان، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ إبليس، قاله قتادة، وسُمِّي بالباطل لأنه يدعو إلى الباطل‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أنه الهوى‏.‏

‏{‏وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِهِمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ اتبعوا الرسول، لأنه دعاهم إلى الحق وهو الإسلام‏.‏

الثاني‏:‏ يعني القرآن سمي حقاً لمجيئه بالحق‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ‏}‏ قال يحيى‏:‏ صفات أعمالهم، وفي الناس هنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ جميع الناس، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 9‏]‏

‏{‏فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏4‏)‏ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ‏(‏5‏)‏ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ‏(‏6‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏8‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ فيهم هنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم عبدة الأوثان، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فَضَرْبَ الرِّقَابِ‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ضرب أعناقهم صبراً عند القدرة عليهم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قتلهم بالسلاح واليدين، قاله السدي‏.‏

‏{‏حَتَّى إِذَآ أَثخَنُتُموهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ‏}‏ يعني بالإثخان الظفر، وبشد الوثاق الأسر‏.‏

‏{‏فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً‏}‏ في المَنِّ هنا قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه العفو والإطلاق كما من رسول الله صلى الله عليه على ثمامة بن أثال بعد أسره‏.‏

الثاني‏:‏ أنه العتق، قاله مقاتل‏.‏

فأما الفداء ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه المفاداة على مال يؤخذ من أسير يطلق، كما فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر كل أسير بأربعة آلاف درهم، وفادى في بعض المواطن رجلاً برجلين‏.‏

الثاني‏:‏ أنه البيع، قاله مقاتل‏.‏

‏{‏حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن أوزار الحرب أثقالها، والوزر الثقل ومنه وزير الملك لأنه يتحمل عنه الأثقال، وأثقالها السلاح‏.‏

الثاني‏:‏ هو ‏[‏وضع‏]‏ سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة، قال الشاعر‏:‏

وأعددت للحرب أوزارها *** رماحا طوالاً وخيلاً ذكوراً

الثالث‏:‏ حتى تضع الحرب أوزار كفرهم بالإسلام، قاله الفراء‏.‏

الرابع‏:‏ حتى يظهر الإسلام على الدين كله، وهو قول الكلبي‏.‏

الخامس‏:‏ حتى ينزل عيسى ابن مريم، قاله مجاهد‏.‏

ثم في هذه الآية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِم لَعَلَّهُمْ يَذَّكُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 57‏]‏ قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها ثابتة الحكم، وأن الإمام مخير في من أسره منهم بين أربعة أمور‏:‏ أن يقتل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضَرْبَ الرِّقَابِ‏}‏، أو يسترق لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استرق العقيلي، أو يَمُنُّ كما مَنَّ على ثمامة، أو يفادي بمال أو أَسرى، فإذا أسلموا أسقط القتل عنهم وكان في الثلاثة الباقية، على خياره، وهذا قول الشافعي‏.‏

‏{‏ذلِك وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لا نَتصَرَ مِنهُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالملائكة، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ بغير قتال، قاله الفراء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ قراءة أبي عمرو وحفص، قال قتادة‏:‏ هم قتلى أحد‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏قَاتَلُواْ‏}‏‏.‏

‏{‏سَيَهْدِيهِمْ‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يحق لهم الهداية، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ يهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر، قاله زياد‏.‏

الثالث‏:‏ يهديهم إلى طريق الجنة، قاله ابن عيسى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ عرفها بوصفها على ما يشوق إليها، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ عرفهم ما لهم فيها من الكرامة، قاله مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ معنى عرفها أي طيبها بأنواع الملاذ، مأخوذ من العرف وهي الرائحة الطيبة، قاله بعض أهل اللغة‏.‏

الرابع‏:‏ عرفهم مساكنهم فيها حتى لا يسألون عنها، قاله مجاهد‏.‏ قال الحسن‏:‏ وصف الجنة لهم في الدنيا فلما دخلوها عرفوها بصفتها‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أنه عرف أهل السماء انها لهم إظهاراً لكرامتهم فيها‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرواْ اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إن تنصروا دين الله ينصركم الله‏.‏ الثاني‏:‏ إن تنصروا نبي الله ينصركم الله، قاله قطرب‏.‏

‏{‏وَيُثَبِّتْ أَقْدَامكُمْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ويثبت أقدامكم في نصره‏.‏

الثاني‏:‏ عند لقاء عدوه‏.‏

ثم فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني تثبيت الأقدام بالنصر‏.‏

الثاني‏:‏ يريد تثبيت القلوب بالأمن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ‏}‏ فيه تسعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ خزياً لهم، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ شقاء لهم، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ شتماً لهم من الله، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ هلاكاً لهم، قال ثعلب‏.‏

الخامس‏:‏ خيبة لهم، قاله ابن زياد‏.‏

السادس‏:‏ قبحاً لهم، حكاه النقاش‏.‏

السابع‏:‏ بعدائهم، قاله ابن جريج‏.‏

الثامن‏:‏ رغماً لهم، قاله الضحاك‏.‏

التاسع‏:‏ أن التعس الانحطاط والعثار، حكاه ابن عيسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ‏(‏10‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ‏(‏12‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَأيّن مِّن قَرْيَةٍ‏}‏ أي وكم من قرية، وأنشد الأخفش للبيد‏:‏

وكائن رأينا من ملوك وسوقة *** ومفتاح قيد للأسير المكبل

فيكون معناه‏:‏ وكم من أهل قرية‏.‏

‏{‏هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً‏}‏ أي أهلها أشد قوة‏.‏

‏{‏مِّن قَرْيَتِكَ‏}‏ يعني مكة‏.‏

‏{‏الَّتِي أَخْرَجَتْكَ‏}‏ أي أخرجك أهلها عند هجرتك منها‏.‏

‏{‏أَهْلكْنَاهُمْ‏}‏ يعني بالعذاب‏.‏

‏{‏فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ‏}‏ يعني فلا مانع لهم منا، وهذا وعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 15‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏14‏)‏ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَان عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبّهِ‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه القرآن، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه محمد صلى الله عليه وسلم، قاله أبو العالية، والبينة الوحي‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم المؤمنون، قاله الحسن، والبينة معجزة الرسول‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الدين، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ عبادتهم الأوثان، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ شركهم، قاله قتادة، وفيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم كافة المشركين‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الإثنا عشر رجلاً من قريش‏.‏

وفيمن زينه لهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الشيطان‏.‏

الثاني‏:‏ أنفسهم‏.‏

‏{‏وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُم‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه نعت لمن زين له سوء عمله‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم المنافقون، قاله ابن زيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏16‏)‏ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ‏(‏17‏)‏ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ‏(‏18‏)‏ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ هم المنافقون‏:‏ عبد الله بن أُبيّ بن سلول، ورفاعة بن التابوت، وزيد بن الصليت، والحارث بن عمرو، ومالك بن الدخشم‏.‏ وفيما يستمعونه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه، فإذا خرجوا سألوا عنه، قاله الكلبي ومقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، فيسمعون منه ما يقول، فيعيه المؤمن ولا يعيه المنافق‏.‏

‏{‏حَتَّى إِذا خَرَجُواْ مِن عِندِكَ‏}‏ أي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏قَالُواْ لِلَّذِينَ أوتُواْ الْعِلْمَ‏}‏ فيهم أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه عبد الله بن عباس، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ عبد الله بن مسعود، قاله عبد الله بن بريدة‏.‏

الثالث‏:‏ أبو الدرداء، قاله القاسم بن عبد الرحمن‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم الصحابة، قاله ابن زيد‏.‏

‏{‏مَاذَا قَالَ ءَانِفاً‏}‏ هذا سؤال المنافقين للذين أُوتوا العلم إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني قريباً‏.‏

الثاني‏:‏ مبتدئاً‏.‏

وفي مقصودهم بهذا السؤال وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الإستهزاء بما سمعوه‏.‏

الثاني‏:‏ البحث عما جهلوه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن الإستهزاء زاد المؤمنين هدى، قاله الفراء‏.‏

الثاني‏:‏ أن القرآن زادهم هدى، قاله ابن جريج‏.‏

الثالث‏:‏ أن الناسخ والمنسوخ زادهم هدى، قاله عطية‏.‏

وفي الهدى الذي زادهم أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ زادهم علماً، قاله الربيع بن أنس‏.‏

الثاني‏:‏ علموا ما سمعوا، وعلموا بما عملوا، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ زادهم بصيرة في دينهم وتصديقاً لنبيهم، قاله الكلبي‏.‏

الرابع‏:‏ شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ والذين اهتدوا بالحق زادهم هدى للحق‏.‏

‏{‏وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ آتاهم الخشية، قاله الربيع‏.‏

الثاني‏:‏ ثواب تقواهم في الآخرة، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ وفقهم للعمل الذي فرض عليهم، قاله مقاتل‏.‏

الرابع‏:‏ بين لهم ما يتقون، قاله ابن زياد‏.‏

الخامس‏:‏ أنه ترك المنسوخ والعمل بالناسخ، قاله عطية‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأتِيَهُم بَغْتَةً‏}‏ أي فجأة‏.‏

‏{‏فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أشراطها آياتها، قاله ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أوائلها، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه انشقاق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ ظهور النبي، قاله الضحاك‏.‏ قال الضحاك لأنه آخر الرسل وأمته آخر الأمم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بُعِثْتُ وَالسَّاعَة كَهَاتِينِ» وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى‏.‏

‏{‏فَأَنَّى لَهُمْ‏}‏ قال السدي‏:‏ معناه فكيف لهم النجاة‏.‏

‏{‏إذَا جَآءَتْهُمْ ذِكرَاهُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إذا جاءتهم الساعة، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ إذا جاءتهم الذكرى عند مجيء الساعة، قاله ابن زيد‏.‏

وفي الذكرى وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر‏.‏

الثاني‏:‏ هو دعاؤهم بأسمائهم تبشيراً أو تخويفاً‏.‏ روى أبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أَحْسِنُواْ أَسْمَآءَكُم فَإِنَّكُم تُدْعَوْنَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ، يَا فُلاَنُ قُمْ إِلَى نُورِكَ، يَا فُلاَنُ قُمْ فَلاَ نُورَ لَكَ»‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَاعلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ‏}‏ وفي- وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم عالماً به- ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله‏.‏

الثاني‏:‏ ما علمته استدلالاً فاعلمه خبراً يقيناً‏.‏

الثالث‏:‏ يعني فاذكر أن لا إله إلا الله، فعبر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه‏.‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب‏.‏

الثاني‏:‏ استغفر الله ليعصمك من الذنوب‏.‏

‏{‏وَلِلْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ أي استغفر لهم ذنوبهم‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ متقلبكم في أسفاركم، ومثواكم في أوطانكم‏.‏

الثاني‏:‏ متقلبكم في أعمالكم نهاراً ومثواكم في ليلكم نياماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ‏(‏20‏)‏ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ‏(‏21‏)‏ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ‏(‏22‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزَّلِتْ سُورَةٌ‏}‏ كان المؤمنون إذا تأخر نزول القرآن اشتاقوا إليه وتمنوه ليعلموا أوامر الله وتعبده لهم‏.‏

‏{‏فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ‏}‏ وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ فإذا أنزلت سورة محدثة ‏{‏وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ‏}‏‏.‏

في السورة المحكمة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها التي يذكر فيها الحلال والحرام، قاله ابن زياد النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ أنها التي يذكر فيها القتال‏:‏ وهي أشد القرآن على المنافقين، قاله قتادة‏.‏

ويحتمل‏:‏

ثالثاً‏:‏ أنها التي تضمنت نصوصاً لم يتعقبها ناسخ ولم يختلف فيها تأويل‏:‏

‏{‏رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ‏}‏ هم المنافقون، لأن قلوبهم كالمريضة بالشك‏.‏ فإذا أنزلت السورة المحكمة سر بها المؤمنون وسارعوا إلى العمل بما فيها، واغتم المنافقون ونظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏نَظَرَ الْمَغْشِّيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوتِ‏}‏ غماً بها وفزعاً منها‏.‏

‏{‏فَأَوْلَى لَهُمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه وعيد، كأنه قال‏:‏ العقاب أولى لهم، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أولى لهم، ‏{‏طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ‏}‏ من أن يجزعوا من فرض الجهاد عليهم، قاله الحسن‏.‏

وفيه وجه ثالث‏:‏ أن قوله ‏{‏طَاعَةٌ وَقُوْلٌ مَعْرُوفٌ‏}‏ حكاية من الله عنهم قبل فرض الجهاد عليهم، ذكره ابن عيسى‏.‏

والطاعة هي الطاعة لله ورسوله في الأوامر والنواهي‏.‏ وفي القول المعروف وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ هو الصدق والقبول‏.‏

الثاني‏:‏ الإجابة بالسمع والطاعة‏.‏

‏{‏فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ‏}‏ أي جد الأمر في القتال‏.‏

‏{‏فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّه‏}‏ بأعمالهم ‏{‏لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ من نفاقهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فهل عسيتم إن توليتم أمور الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاماً أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا، قاله أبو العالية‏.‏

الثالث‏:‏ فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام‏.‏ ‏{‏وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ‏}‏، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام، قاله ابن جريج‏.‏

وفي هذه الآية ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه عنى بها المنافقين وهو الظاهر‏.‏

الثاني‏:‏ قريشاً، قاله أبو حيان‏.‏

الثالث‏:‏ أنها نزلت في الخوارج، قاله بكر بن عبد الله المزني‏.‏